مشروع الإصلاح السياسي العربي
لا مناص من الإقرار أن شعار "الإصلاح" تحول في الآونة الأخيرة إلى شعار المرحلة وعنوانها، والهم الطاغي على الصراعات الأيدولوجية والسياسية في المنطقة العربية، والموضوع المشترك للكثير من المبادرات الإقليمية والدولية، وبقدر ما هو مطلب داخلي ملح هو في الآن نفسه ورقة ضغط دولية فاعلة، وإطارا لضبط التوازنات والاستراتيجيات الجديدة. وتختلف مقولة "الإصلاح" عن مفهومين آخرين سادا خلال القرن الماضي، أولهما مفهوم "التمدن" الذي هيمن على الخطاب النهضوي في حقبته الأولي –كما في كتابات الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني ومحمد عبده- ويعني هذا المفهوم منظومة التنوير بما تقوم عليه من قيم التقدم والعقلنة والحرية والتحديث الثقافي والمؤسسي.
وثانيهما مفهوم "الثورة" الذي ساد في الآدبيات الأيديولوجية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا لدى التيارين القومي واليساري ويعني القطيعة الراديكالية الشاملة والقلب الجذري لإعادة بناء فكر الأمة وتعديل أوضاعها. فلئن كانت مقولة الإصلاح تتغذى نظريا ومعياريا من مرجعية التنوير والتحديث، إلا أنها تبدو أكثر التصاقا بالظروف العملية والأوضاع المعيشة، والأساس فيها هو معالجة الاختلالات القائمة التي تعوق النهوض، كما أنها تنأى عن الشحنة الراديكالية لمقولة الثورة.
بيد أن ما يميز مقولة "الإصلاح" الجديدة عن إصلاحية القرن 19 هو تمحورها حول الإصلاح السياسي، أي تكريس القيم والنظم الديمقراطية التعددية، والخروج من حالة الأحادية والاستثنائية.
بيد أن ما نلاحظه بوضوح، هو غياب حوار فكري وسياسي معمق حول مقومات الإصلاح وآلياته، بعد أن أصبح الشعار نفسه مدار إجماع شامل. فالخطاب الإصلاحي السائد يتأرجح بين ثلاثة مواقف، نلمح إليها باقتضاب وهي:
إما اختزال معوقات التحول في الأنظمة السياسية واعتبار الضغط الداخلي والخارجي عليها مدخلا لفرض التغيير المطلوب، الذي يشكل حاجة حيوية ومطلبا شعبيا موضوعيا.
أو اعتبار الإصلاح الديني والثقافي المدخل الأسلم والشرط الأساس للتغيير الجوهري المنشود.
أو احتواء مطلب الإصلاح ضمن المنظور القومي والحضاري الشامل للأمة، باعتباره أحد مرتكزات مشروع نهضوي ومجتمعي متكامل لا يتحقق دون وحدة الأمة واستعادة حقوقها المسلوبة.
وما تعكسه هذه المواقف الثلاثة التي لا غبار عليها من حيث المقصد والمسلك هو غياب حوار فكري معمق وشامل حول مفهوم الإصلاح ذاته وآلياته الإجرائية، باعتبار كونها تقدم إجابات متسرعة وجاهزة على إشكالات عصية ومعقدة، تستدعي جهدا تحليليا واستشرافيا واسعا (وإن كان عاجلا وملحا).
وسنشير في هذه المداخلة، إلى بعض الإشكاليات المحورية التي نراها أساسية في استكناه مقومات الإصلاح وأجندته في الساحة العربية.
أولى الإشكاليات تتعلق بسقف الإصلاح وإطاره: فهل الملطلوب هو إحداث تغيير مجتمعي شامل وكامل، يتجاوز مطلب إصلاح نظام الحكم وإطلاق الحريات العامة، ليشمل هياكل الدولة وبنياتها المركزية وتركيبة المجتمع المدني وأرضية الاقتصاد والتنمية، أم أن المقصود فقط هو تسيير الانتقال من حالة الانغلاق والاستبداد إلى حالة الديمقراطية والتعددية.
أن طبيعة الإجابة على هذا السؤال تبنى عليها استراتيجيات التغيير، بحيث تكون أما استراتيجية نهوض وتحديث وتنوير بإيقاع بطيء ومنظور شمولي واسع، واستراتيجية تغيير سريعة تنحصر في كتابة دساتير وقوانين وتشكيل أحزاب وتنظيم انتخابات، مع المراهنة على قدرة التغيير السياسي على تهيئة الأرضية الملائمة للإصلاح المجتمعي الجذري.
دون إدعاء تقديم إجابة نهائية وحاسمة حول هذا الإشكال العصي، نكتفي بالإشارة إلى أن تجربة التحول السياسي في العديد من البلدان الإفريقية والأمريكية الجنوبية والآسيوية، أثبتت أن الديمقراطية التعددية تظل هشة وعرضة للانهيار إن لم تسندها قاعدة تنموية صلبة واندماج اجتماعي فعال وأرضية قيمية تحديثية ناجعة.
في حين أثبتت تجربة أغلب بلدان أوروبا الشرقية سابقا أن توفر الشروط المذكورة آنفا يسهل النقلة من الأحادية والكليانية إلى الديمقراطية التعددية.
فلا بد من الإشارة إلى زيف مصادرة اختزال الديمقراطية في العملية الانتخابية، التي هي من دون شك آلية إجرائية، لا غنى عنها في الممارسة الديمقراطية التعددية، إلا أنها لا تتماهي معها، فهي ليست أكثر من آلية تمثيل تجسد موازين قائمة وتعبّر عنها بصرف النظر عن خلفيات ومحددات هذه الموازين والخيارات التي تفضي إليها، والإطار المؤسسي الذي تتخذه، والأرضية الفكرية والمجتمعية والتشريعية لرهان المنافسة السياسية.
فإذا كانت الديمقراطية هي النظام المؤسسي الذي يجسد الحريات العامة، فإن الانتخابات التعددية هي تعبير إجرائي عن الجانب الشكلي في الحرية (أي الجانب المتعلق بالقواعد والضوابط المنظمة للفعل السياسي)، وليست بالضرورة تعبيرا عن الحريات ذاتها، ولا عن نمط تمفصل البنيات الاجتماعية والثقافية مع تركيبة الحقل السياسي.
ففي النظام الديمقراطي مكونات ثلاثة مترابطة عضويا هي:
الجانب الثقافي المتمثل في قيم التسامح والوعي الذاتي الحر الذي يتم استبطانها في منظومة القيم الاجتماعية لتشكل قاعدة مرجعية عميقة للإرادة الذاتية المتحررة من نوازع التعصب وقيود السلط المعرفية وتحكم دوائر الانتماء الخصوصية من طائفية وعشائرية.
الجانب التشريعي المؤسسي، الذي يضع الضمانات القانونية الضرورية لتنظيم الحقل السياسي، وفق رقابة وإشراف قضاء عادل ومستقل.
آلية الانتخابات التي تنظم عمليا الصراع السياسي السلمي على السلطة.
فبدون المحددين الأولين، لا يمكن للانتخابات أن تكون بديلا حقيقيا عن الاستبداد، الذي يمكن أن يتخذ شكل هيمنة أغلبية عرقية أو طائفية، يتسنى لها من خلال الموازين الديمغرافية التحكم في السلطة، من دون أن يتمتع الفرد بمميزات المواطنة، من حيث هي ولاء للأمة واختيار ذاتي حر لخيار سياسي ومجتمعي، خارج عملية الاستقطاب الخصوصي الضيق. فالديمقراطية ارتبطت عضويا كما تبين التجربة الغربية بالوعي الفردي الحر، ضمن نطاق الولاء للأمة من حيث هي كيان كلي ينعقد له الولاء المطلق.
بيد أن هذه الحقيقة لا تعني تبرير تعليق الحريات العامة لتهيئة الأرضية الملائمة لهاـ ذلك أن البناء التنموي والثقافي الناجع يقتضي الحرية قيميا وإجرائيا، وإلا كان هشا ومحدود الأثر والفعالية.
وحاصل الأمر أن الإصلاح ديناميكية مجتمعية متكاملة، تستبطن في آن واحد قيم التحديث الفكري والثقافي ومعايير التنمية الإنسانية الناجعة وآليات ونظم التمثيل الديمقراطي فالدول التي تتناغم فيها هذه الاتجاهات تقوم فيها تجارب واعدة.
أما ثانية الإشكاليات، فتتعلق بعلاقة الإصلاح الوطني الداخلي بالمنظور الإقليمي والقومي، لا من حيث الأبعاد والخيارات الأيديولوجية المحضة، بل من حيث الاعتبارات الموضوعية الحاسمة.
فهل ستشكل الدولة الوطنية التي هي الحقيقة العينية الشرعية الوحيدة الموجودة إطار الإصلاح المنشود بكل هشاشتها وهناتها ومحدوديتها، أم أن المقصود هنا هو الدولة القومية التي إن كانت حلما ومشروعا عربيا ينعقد عليه إجماع واسع، إلا أن النموذج الذي تقوم عليه (الدولة الأمة ذات السيادة المطلقة) يتعرض لأزمة وجودية عميقة من جراء حقائق العولمة التي أفقدت أكبر الكيانات القومية في الغرب جانبا كبيرا من مقومات سيادتها ضمن الفضاء الإمبراطوري الجديد (الذي تحدث عنه الفيلسوفان الإيطالي والأمريكي توني نغري ومايكل هارت في كتابهما المشهور الإمبراطورية).
إن هذا الإشكال يتمفصل مع الأسئلة النظرية والعملية المعقدة التي تطرح اليوم على الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، التي تبحث عن صيغة جديدة لممارسة الديمقراطية في عصر ما بعد الدولة الوطنية، بعد أن أصبحت القرارات الجوهرية التي تتعلق بمصالح المواطنين تتخذ خارج الدوائر التمثيلية المحلية.
فالديقمراطيات العربية الناشئة لا بد ان تراعي تحديين غير محسومين أولهما يتعلق بشكل ونموذج الدولة الوطنية ذاته من حيث بنيته التاريخية المعرضة للاندثار.
وثانيهما يتعلق بطبيعة المشروع القومي الذي لا يزال أفقا أيديولوجيا وتاريخيا للفعل السياسي العربي، دون أن تتبلور آليات إنجازه، وقد أصبح الرهان على الديمقراطية إحدى هذه الآليات في الخطاب الرائج في أيامنا.
أما ثالثة الإشكاليات: فتتعلق بعلاقة الدولة بتركيبة المجتمع الأهلي الذي يتعين التمييز داخله بين البنيات والهياكل العصبية والطائفية، التي لا يزال لها تأثيرها القوي، حتى ولو كانت في ذاتها متعارضة مع منطق المواطنة بمفهومه الحديث، والأشكال الجنينية للمجتمع المدني المعاصر المتولدة عن الاقتصاد الجديد، ونظام قسمة العمل الراهن التي تعاني من أزمة حقيقية من جراء تعثر المشروع التحديثي لدولة الاستقلال من جهة، والتداعيات السلبية للعولمة الاقتصادية المالية من جهة أخرى.
فإذا كان من المعروف أن دور الدولة في الأنظمة الديمقراطية هو ضبط صراعات المجتمع المدني، ضمن مفهوم المواطنة المشتركة والولاء للأمة، فإن التحدي المطروح على الديمقراطيات العربية الناشئة، يتعلق بالقدرة على بناء هذا المفهوم الجديد للدولة في مجتمعات تتأرجح فيها الهياكل المركزية بين الاحتماء بالبنيات الأهلية التقليدية واستخدام الأجهزة البيروقراطية الجديدة، لتشديد القبضة على المجتمع وتقويض وحدات المجتمع المدني الناشئة، التي أصبح بعضها يؤدي دور الوكيل الداخلي للأطراف الدولية تستخدمها ورقة ضغط على الأنظمة، مما أفقدها دورها الاندماجي الوطني، فضلا عن أدائها غير المشروع لأدوار سياسية تعود للأحزاب والتشكيلات السياسية.
أما رابعة الإشكاليات فتتعلق بطبيعة العلاقة بين ديناميكية التحول الداخلية ومطلب الإصلاح المفروض من الخارج.
والمعروف أن هذا المطلب أصبح محور الاستراتيجيات الدولية المتعلقة بالمنطقة ومرتكزا من مرتكزات الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية في تعاملها مع قضايا الدائرة العربية-الإسلامية.
ولا يخفى على أحد، أن الإدارة الأمريكية قررت بعد أحداث 11 سبتمبر ممارسة ضغوط قوية على الأطراف العربية والإسلامية للقيام بإصلاحات جوهرية في الميادين السياسية والاقتصادية والتربوية بعد أن تقرر لديها أن منبع الإرهاب هو الاستبداد السياسي والنظام التعليمي الذي يمرر خطاب التعصب والإقصاء، وتحكم المؤسسة الدينية في الحراك الثقافي والاجتماعي.
وقد طرحت المقاربة الأمريكية على مراحل، وقدمها الرئيس بوش في مناسبات متتالية، قبل أن تتحول إلى مبادرة دولية بعد اعتمادها من مجموعة الثمان الصناعية.
ولئن كانت المبادرة الأمريكية قد أعدت وطبخت في مراكز الرأي صبغة استفزازية وإقصائية، فإنها في نسختها الرسمية المقدمة لا تتجاوز بنودا خمسة أساسية هي:
الإصلاح المؤسسي باعتماد الحكم الرشيد.
توطيد الانفتاح السياسي بإطلاق الحريات الديمقراطية.
دعم الإصلاحات الليبرالية التي تؤهل الاقتصاد الشرق أوسطي المندمج للاندماج في منظومة العولمة.
تمكين المرأة وإشراكها في مراكز القرار والسلطة.
بناء وتوطيد مجتمع المعرفة والمعلومات بالاستثمار في التعليم والتقنيات الجديدة.
فالأمر إذن يتعلق بمطالب ومقتضيات صادرة عن المؤسسات والمنظمات الاقتصادية والمالية الدولية، ويعبّر دون شك عن حاجيات موضوعية، والاعتراض القائم عليها يتعلق بالانزياح القائم بين المشروعية القيمية للأطروحة الأمريكية وحيّز انطباقها العملي في الساحة الدولية، حيث أثبتت تجربة التغيير المفروضة بالقوة في أفغانستان والعراق وهم ووهن نهج الإصلاح المفروض من الخارج، الذي يفضي إلى تعطيل وإعاقة التحول الداخلي بتهيئة الأرضية الملائمة لتغلب منطق تحرير الوطن على منطق تحرير المواطن.
ولا شك أن الرهان هو على عملية الإصلاح الداخلي، التي اتخذت في المنطقة العربية مساران هامان:
مسار رسمي عبرت عنه وثيقة الإصلاح الصادرة عن قمة تونس (2004)، وقد تبنت أهدافا ومبادئ مرجعية تؤطر لمشروع الإصلاح من دون تحديد لآليات وسبل تنفيذه مع ترك هامش واسع للدول في ضبط سقف ووتيرة الإصلاح في ساحاتها الداخلية، ومع تأجيل حسم ملف إصلاح النظام العربي الإقليمي الذي أقرت عليه بعض التعديلات الأولية خلال قمة الجزائر الأخيرة.
مسار شعبي عبرت عنه مبادرات رعتها منظمات المجتمع المدني العربية، وعكسته وثائق صادرة عن ندوات مثمرة انعقدت في صنعاء والإسكندرية وبيروت ولا تخرج في الإجمال عن مطالب التنظيمات السياسية العربية وشبكات المجتمع الأهلي في الإصلاح السياسي والمؤسسي الشامل. بيد أن هذه الديناميكية الرسمية والأهلية لا بد أن تسندها ديناميكية فكرية وثقافية رصينة وجادة، باعتبار مطلب الإصلاح هو قبل كل شيء مشروع ثقافي في مستوى تأويل المرجعية التراثية وإعادة تحديد العلاقة بالمنظومة الثقافية والروحية وإعادة تشكيل الخيارات التربوية والنظم الاجتماعية والمؤسسية.
0 Responses

إرسال تعليق

  • حكمة اليوم

  • مدونتي :عود على بدء

    أيماناً بأهمية أن يكـون لدى الفـرد ثقافة موسوعية، وأن يكـون لديـه -على الأقل- أدراك معرفي مبدئـي لمجالات متنوعة، بالإضافة الى أننا نـعيـش فـي عصــر تعــتبر التبادل الآنـي للمعلـومـات والمـعرفة أبـرز سماته بلا جدال.

    وفقاً للمعطيات السابقة، نقدم من خــلال هـــذه المــدونـة محــاولـة بســيطة لإثــراء القــاريء العربــي معرفياً، عن طريق تـقديم مقــالات فـي أربــع مجــالات مـهمـة هــي العلم و الطب والسـياسـة والأدب






    المتابعون

تعريب وتطوير حسن